حين سئل الحسن يوما: كيف أصبحت يا أبا سعيد؟ قال: والله ما من انكسرت به سفينة في لجج البحر بأعظم مني مصيبة، قيل: ولم ذاك؟ قال: لأني من ذنوبي على يقين، ومن طاعني وقبول عملي على وجل، لا أدري ِأقبلت مني أم ضرب بها وجهي.
فقيل له: وأنت تقول ذلك يا أبا سعيد؟ فقال: ولم لا أقول ذلك، ما الذي يؤمنني من أن يكون الله سبحانه وتعالى قد نظر إليَّ وأنا على بعض هناتي نظرة مقتني بها، فأغلق عني باب التوبة، وحال بيني وبين المغفرة، فأنا أعمل في غير معتمل([2]).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما من شيء يتكلم به ابن آدم إلا كتب عليه حتى أنينه في مرضه، فلما مرض الإمام أحمد فقيل له: إن طاوسًا كان يكره أنين المرض، فتركه([3]).
والكثير الآن لا يعد الكلام من العمل وما علم أنه يحصى عليه كل لفظ وقول وأنه غدا محاسب على كل كلمة وحديث.
من علم أن كلامه من عملهش
وأكد ذلك الإمام الأوزاعي بقوله: من أكثر ذكر الموت كفاه اليسير، ومن عرف أن منطقه من عمله قل كلامه([5]).
ولكثرة آفات اللسان والتهاون فيها وإطلاق الألسن في كل مكان وحديث، قال الحسن بن صالح: فتشنا الورع فلم نجده في شيء أقل منه في اللسان([6]).
وغالب آفة اللسان أذى للمسلم ونقص في قدره ورمي له بالتحقير والتصغير ...
والفضيل بن عياض يقول في ذلك: والله ما يحل لك أن تؤذي كلبا أو خنزيرًا بغير حق، فكيف تؤذي مسلما؟!([7]).
وفي حديث صادق ونصائح غالية هذا ابن عباس رضي الله عنهما يقول: خمس لهن أحب إليَّ من الدهم الموقوفة، لا تتكلم فيما لا يعنيك فإنه فضل ولا آمن عليك الوزر، ولا تتكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضعا فإنه ربَّ متكلم في أمر يعنيه قد وضعه في غير موضعه فعنت، ولا تمار حليما ولا سفيها فإن الحليم يقلبك والسفيه يؤذيك، واذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن يذكرك به، واعفه بما تحب أن يعفيك منه، وعامل أخاك بما تحب أن يعاملك به، واعمل عمل رجل يعلم أنه مجازى بالإحسان مأخوذ بالاجترام([8]).
لعمرك ما للمرء كالرب حافظ
ولا مثل عقل المرء للمرء واعظ
لسانك لا يلقيك في الغي لفظه
فإنك مأخوذ بما أنت لافظ([9])
قال عطاء بن رباح: إن من كان قبلكم كانوا يعدون فضول الكلام ما عدا كتاب الله، أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر، أو أن تنطق في معيشتك التي لا بد منها، أتنكرون أن عليكم حافظين كراما كاتبين، عن اليمين وعن الشمال قعيد، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، أما يستحي أحدكم لو نشرت صحيفته التي أملى صدر نهاره، وليس فيها شيء من أمر آخرته([10]).
هذه حالهم في ذلك الزمن وهم أهل الطاعة والذكر، مجالسهم خالية من الغيبة والنميمة والكذب والاستهزاء بل كانوا يطرزون مجالسهم بالبكاء والخشوع وإظهار الجزع، وكان عامة كلامهم مثل كلام أحدهم وهو ابن سيرين.. سبحان الله العظيم سبحان الله وبحمده.
هذا نموذج لمجالسهم العامرة بالخير.. وزيادة في الحرص كان عبد الله بن الخيار يقول في مجلسه: اللهم سلمنا، وسلم المؤمنين منا([11]).
وكان عمر بن الخطاب يقول: من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه ومن كثرت ذنوبه كانت النار
أولى به([12]).
وللخوف من السقوط في النار... ومن خوف شدة الحساب غدا.
أخي:
تعهد نفسك في ثلاثة مواضع: إذا علمت فاذكر نظر الله تعالى عليك وإذا تكلمت فانظر سمع الله إليك، وإذا سكت فانظر علم الله فيك([13]).
قال سلمة بن دينار: ينبغي للمؤمن أن يكون أشد حفظا للسانه منه لموضع قدمه([14]).
ولا يكون هذا الحفظ سهلا إلا بمراقبة الله جل وعلا في كل كلمة تخرج وفي كل حركة تظهر. والاقتصاد في الكلام من علامات التيقظ والتنبه
قال ابن مسعود: إياكم وفضول الكلام حسب امرئ ما بلغ حاجته([15]).
وحتى فضول الكلام الذي هو دون الضرر فإنه حسرات يوم القيامة لأن أزمنة في ما لا فائدة فيه حسرة وندامة...
قال بعض السلف: يعرض على ابن آدم يوم القيامة ساعات عمره، فكل ساعة، لم يذكر الله فيها تتقطع نفسه عليها حسرات.
من هنا يعلم أن ما ليس بخير من الكلام فالسكوت عنه أفضل من التكلم به، اللهم إلا ما تدعو إليه الحاجة مما لا بد منه([16]).
وما أدري وإن أملت عمرًا
لعلي حين أصبح لست أمسي
ألم تر أن كل صباح يوم
وعمرك فيه أقصر من أمس([17])
قال ابن عباس رضي الله عنهما: يا لسان قل خير تغنم، أو اسكت عن شر تسلم([18]).
فإن العبد لا يبلغ حقيقة الإيمان حتى يحل بذروته ولا يحل بذروته حتى يكون الفقر أحب إليه من الغنى، والتواضع أحب إليه من الشرف، وحتى يكون حامده وذامه عنده سواء، وإن الرجل ليخرج من بيته ومعه دينه فيرجع وما معه من شيء، ويأتي الرجل ولا يملك له ولا لنفسه ضرا ولا نفعا، فيقسم له بالله إنك لذيت ولذيت، فيرجع وماجني من حاجته بشيء ويسخط الله عليه([19]).
فهذا الرجل عاد وقد أسخط الله جل وعلا بسبب لسانه الذي لم يتحفظ منه بل أطلقه بالإيمان الكاذب، هذا موقف واحد.
أما من تربع في مجلس ساعات طوال لم يسلم المسلمون من لسانه غيبة ونميمة وإفشاء سر وإشاعة فاحشة فإن ذلك محاسب عليه.. لا يرى عيبا إلا أشاعه ولا يسمع حديثا إلا تكلم به.
قال عبد الله بن مسعود، كفى بالمرء إثما، أن يحدث بكل ما سمع([20]).
أخي الكريم:
ليكن حظ المؤمن منك ثلاث خصال لتكون من المحسنين:
أحدهما: إنك إن لم تنفعه فلا تضره.
والثانية: إن لم تسره فلا تغمه.
والثالثة: إن لم تمدحه فلا تذمه([21]).
فإن أكثر الناس خطايا أفرغهم لذكر خطايا الناس كما قال ذلك محمد بن سيرين([22]):
فإن عبت قوما بالذي فيك مثله
فكيف يعيب الناس من هو أعور؟
وإن عبت قوما بالذي ليس فيهم
فذلك عند الله والناس أكبر([23])
إن اتباع الهوى وطول الأمل مادة كل فساد فإن اتباع الهوى يعمي عن الحق معرفة وقصدا، وطول الأمل ينسي الآخرة، ويصد عن الاستعداد لها([24]).
فمن طال أمله قل عمله ومن نسي الآخرة لم يحاسب نفسه...
مجالسنا الطويلة بماذا نعمرها وبأي أمر نجملها وهي مجالس طويلة بعضها يمتد لساعات طوال.
قال الزهري: إذا طال المجلس كان للشيطان فيه نصيب([25]).
وإذا لم تكن مجالس خير وذكر فإن الشيطان يحرك الألسن ويشفي الصدور، وقد ينزل إلى شهوات البطن والفرج وقد قال الأحنف بن قيس يحكي صفات الرجولة الحقة.. جنبوا مجالسنا ذكر النساء والطعام، إني أبغض الرجل يكون وصافا لفرجه وبطنه([26]).
ولو خطر في بال أحدنا أن يسجل ما يتحدث به في مجلس واحد.. لرأى كم من الأوراق يحتاج.. ولو حاسب نفسه لوجد الكثير من الزلات والسقطات.
وقد حدد الربيع بن خثيم الكلام بأنه لا خير فيه إلا في تسع.
تهليل وتكبر، وتسبيح وتحميد، وسؤالك من الخير، وتعوذك من الشر، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر، وقراءتك القرآن([27]).
أخي الكريم:أختي الفاضلة
هل وقفنا بألسنتنا عند هذه الأمور التسعة، فأضحى التهليل والتكبير ملازما لنا، وأصبحنا والقرآن ربيع قلوبنا؟
أم أن نصيب الدنيا في ألسنتنا هو الغالب وذكر الله وقراءة القرآن هو النادر.. ونحن في منحدر من الدنيا وإقبال على الآخرة؟
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي
درج الجنان بها فوز العابد
ونسيت أن الله أخرج آدمًا